قبل أيام، في جلسة محاكمة أحد معتقلي السجون المصرية، شهدت قاعة المحكمة مشهدا متفرداً من نوعه، بسيطا في تفاصيله، عميقا في إيصال رسالته.
رأينا زوجة تجري إلى زوجها بعدما سمح لها قاض، في بلد لقبوه ببلد الأمن والأمان، أن تسلم على زوجها.
بعد غياب دام شهور، لم تتلامس فيه الأيدي وتتلاصق فيه الأجساد وتمتزج الأنفاس لتصبح نفسا واحدا يصعد من رئة واحدة في شهيق واحد، جاء المشهد هكذا:
زوج  يقف أمام حاكميه وباب خشبي صغير يفتح  أمام شابة في الثلاثين من عمرها، صغيرة الجسم قصيرة القامة، تهرول إلى زوجها، وتقف فجأه، قبل أن نجد زوجها يفتح لها الطريق لتعبر بين الرجال من أصدقائه المعتقلين، ويأخدها في أحضانه ويقبلها وتقبله من رأسه، وتمكث في حضنه لثوان معدودات، ولكني أعتقد أنها شعرت براحة تكفيها العمر كله.
لقد حفرت في قلوبنا قبل قلوبهم الكثير من المعاني، حفرت الحياء، وحفرت عظمة المشاعر، وجسدت لنا الحب في مشهد عظيم، لم  أر جماله وتفاصيله في أي من أفلام هوليود.
لم أكتب عن هذا المشهد كي أشيد بزوجات المعتقلين، ولا أشيد بالمعتقلين ذاتهم، لكني أكتب هذا المشهد وأقف أمامه لأنه أكد أن الحب يكمن في تفاصيله الصغيرة، لم يكن الحب في أفعالنا التي تحتاج منا الكثير من الجهد والتفكير.
هي زوجة محرومة من زوجها لظروف سياسية في بلد من بلاد العالم الثالت، قررت ألا تؤجل لحظاتها، فإذا بها -بحجابها الكامل- تراه هو فقط، فتذهب إليه لكي تنال مطلبها الوحيد، وتهمس في أذنيه بكل خشوع: لا حياة لي في تلك الدنيا إلا بك يا سندي!
تلك السيدة لم تكتب على مواقع  السوشيال ميديا عن حبها لزوجها ولا سردت القصص والروايات أمام الكاميرات تروي قصة عذابها مع فراق زوجها المعتقل البعيد عنها شهورا. هي قررت فقط ألا تؤجل اللحظة، قررت أن تتخذ القرار في أكثر موقف لا يتخيل فيه المرء أن يأخذ ما يريده.
سيدتي، أنتِ في صالة محكمة في بلد الطغاة، فالعدو أمامك والبحر من خلفك، وزوجك متهم في قضية مخابرات،  تحت وصف جماعة يطلق عليها “جماعة إرهابية”! هي لم تكترث لكل هذا وذهبت حاملة معها كل الحنين والضعف والألم لترتمي في أحضانه.
لم أستطع وصف قبلاتها له على اليد والرأس، أحيانا تفرض علينا المشاهد العظيمة أن نرد بأرواحنا كما يقول نزار: (فالصمت في حرم الجمالِ جمالُ) لا نملك في تلك المواقف إلا أن نأخذ نفسا عميقا قبل أن ندعو الله لأصحاب المشهد بالخير وأن نحظى بربع إحساسهم.
 شخص مثلي، متسمة فيما يبدو بالعملية المفرطة، وقفت أمام المشهد متأملة، وإن كان المشهد لا يتعدى الثواني، فقد اعتبرته فيلما كاملا مكتمل المحاور والبناء الدرامي والبدايات والنهايات، فيلما كاملا استطاع أن يوصل لنا أن الحب موجود في حياتنا بقوة، ولن نستطع أن نهرب منه.
الحب يصل الزنزانة تلك المرة بصدق، وليس فيلما سينمائيا أبطاله من ورق، لكنّ أبطال قصتنا هذه يشبهوننا بحق، هم بسطاء في التعبير عن حبهم أقوياء في اتخاذ قراراتهم، فالحب حرب. نعم، حرب يفوز بها كل عاشق مثابر قادر على التمسك بحبه لنفسه والحفاظ على محبه أمام كل تحديات العالم.
لماذا نهرب من تعبيرنا عن الحب؟ هذا عيب فينا أم أن الحب عورة يجب علينا إخفاؤها؟ لن نستطيع أن نصمد كثيرا أمام ما يقوله قلبنا، مهما كنا أقوياء، مهما انغرسنا في تفاصيل عملنا، مهما جاءت الدنيا بكل ما لذ وطاب لنا.
لن نصمد كثيرا أمام تجاهل من نحب، الحب قادر على أن يظهر في أي وقت وأي مكان، لم يخطئ "دكتور عارف" حينما أخذ صغيرته في أحضانه، لم يخطئ حين أظهر ضعفه وقلة حيلته وعجزه. وهي أيضاً لم تخطئ عندما قبلت يديه ورأسه وحضتنه. ليسوا مخطئين حين قرروا أن يسردوا هذا المشهد علينا بكل بساطة حاملين معهم الكثير الذي لم ولن يظهر أمام جموعنا.
لقد ترك فينا هذا المشهد الكثير، مشاعر متخبطة، ما بين "كيف فعلتَ هذا يا دكتور عارف" كيف عبرت لها عن حبك بكل هذا الحياء، الحب لم يقتصر فقط على المنفتحين المتحررين أصحاب الأوسكار.
وهكذا، لم يكن المشهد يحتاج ابتذالا كبيرا، ولا فيلما سينمائيا يتراقص فيه الممثلون بثياب تكشف أكثر مما تستر تحت راية الحُب، لم يكن المشهد يحتاج كل هذا المجهود السخيف الذي بذله أهل الدراما والأفلام ليوصلوا لنا أن الحب لا يزال على قيد الحياة.
مثل هذه المشاهد، مكتوب لها أن تخرج إلى النور لكي تُعلّم أجيالنا أن ترتفع عن الابتذال الذي ينتشر كل يوم تحت مسمى الحُب.
هذه المرة، تجسد الحب في أعظم معانيه بين زوجين ملتزمين دينياً بكل انسيابية: فتاة لا يظهر من جسدها سوى كفي يديها، ومتحدث إعلامي سابق لـ "جماعة إرهابية" برباط قوي وشرعي حلال.

تعليقات

المشاركات الشائعة