في رثاء الأحياء..




"وأريد، لو أنني أرحل عن العالم قبل الذين أحبهم. كنت محظوظاً بحيث لم أجرب فقد الأحبة كثيراً. أخاف هذه اللحظات. أخافها أكثر من خوفي من رحيلي الشخصي وأرجو، لو كان رحيلي سهلاً، سلساً. بسرعة دون ألم يخصني أو يخص الذين سيملكون وقتاً وقلباً للتألم على رحيلي وأريد أن يسامحني بعض الأشخاص، ويحبني بعضهم، ويكرهني بعضهم، على أن تكون الأفعال السابقة حقيقية جداً، لا زيف فيها ولا ادعاء وأريد أن أفهم الحب، لأنه معقد جداً جداً، أفهمه أولاً، ثم أجده لاحقاً، فلم أعد متأكداً من أني صادفته سابقاً، من فرط تعقيده وغموضه وتركيبه، لو أن الحب بسيط. لو! وأريد أن أحتفظ بذاكرتي، النسيان يواجهني الآن، يهاجمني بشكل مبكر جداً، أنسى الأماكن، والبشر، والمواقف، لا أريد أن أنسى لاحقاً أي شيء جميل، وأن تستمر صداقتي بأصحاب الذاكرة القوية، يذكروني وأذكرهم

6-9-2018
 لم أتذكر أبداً التواريخ المهمة في حياتي، السعيدة كانت أو الحزينة، لم أراهن على عصر ذاكرتي لتتذكر لحظات ولت ولن تأتي . تعلمت مؤخرًا أن أتذكر، وأراجع ،ماذا قلت وماذا كنت أشعر العام الماض عبر ذكريات الفيسبوك، لم أستمر طويلاً،لم تروقني الفكرة. ولكن فضولي أستيقظ اليوم ويدفعني بشدة لمعرفتها، اليوم سوف أغير مكان سكني للمرة الـ 9 تقريباً في بريطانيا ، وللمرة الثالثة فقط في مدينة بيرمنجهام. شعور الاستقرار غير المشروط يغريني، أشعر أننى في كل مرة أنقل إلى شخصيتي نسخة مضافة لها صفات ومسؤوليات، أحملها مع حقيباتي، استيقظت اليوم بعد نوم 6 ساعات وطيف البراء حاضر زيادة عن المعتاد، ولأني شخص تركيزه صفر، وفي نفس ذات الوقت تركيزه يقظ إلا أنني لم أربط أن اليوم هو ذكرى وفاته الثالثة،. ثلاثة أعوام يا البراء على رحيلك، لم أتخطى غيابك ولم أستطع مسك دموع قلبي
في ( 5-9-2015 )، تحدثت مع البراء الساعة 1 صباحا ًقبيل يوم وفاته ، برسالة مقتضبة  عرفت أنه سوف يغادر من مصر خلال 10 أيام ، انشغلت بعدها وابتلعني روتين يومي الطبيعي الغير مهم على الإطلاق أمام مكالمة هاتفية طويلة بيننا نتشاجر فيها أو يعلمني كيف أصبح شخصًا اجتماعيًا أو يحكي لي عن مغامراته التي لا تنتهي أو أحكى أنا له عن إحدى علاقاتي الهوائية المعاقة ذهنيًا، مر اليوم بتفاصيله عدت من العمل، ذهبت إلى الجيم رجعت ظانة أننى سوف أخلد للنوم سريعًا، وما أتمناه تجاه النوم لم يحدث كالعادة، فتحدثت على الهاتف مع أخى الكبير الأوحد أبكي له من شيء ينغص قلبي مرددة "قلبي قلبي مقبوض يا إسلام أنتم كويسين ماما بخير، أختك طيب؟ " يرد علي بصوته العاقل الهادي  الحنون " يا سوسو إحنا بخير استعيذي بالله واحكي لي وبعدين خشي نامي" -ظللت معه على الهاتف حتى قرب الفجر، ثم أقنعني أن أغلق هواتفي وأخلد إلى النوم، فلدي تصوير غدًا ويجب أن أكون مرتاحة. 
نمت من الساعة 6 صباحا حتى الساعة 12 ضهرً، نوماً يشبه الموت؛ لم أشعر بالوقت لم أتقلب من على السرير كعادتي، غطاء سريري لم يتحرك، الغطاء الذي أستيقط فأجده عند باب الغرفة غالبًا، من فرط التقلب وجدت هاتف غرفتي بفندق "موفينبيك الدوحة" يرن بصوت عالٍ، ظننت أني أحلم ،لم أقم من السرير.. ازدادت الرنات.. استيقظت مفزوعة لأرد بصوتي الرقيق الذي لم يعرفه عني إلا أقرب الأصدقاء وعائلتي،
وجدتها قائلة "أيوة يا إسراء أنتي بخير؟" عرفت إنها "إيمان" (صديقتي العظيمة سوف أكتب عنها الكثير وعن دورها معي خلال ال4 أعوام بالدوحة). أجبتها بصوتٍ مكتوم " أيوة يا إيمي أنا بخير في حاجة أنتم كويسين؟" ردت قائلة" كلنا بخير والله الحمد لله بس بحاول أكلمك بقالي ساعتين مش بتردي فقلقت عليكي" ..
 أغلقت الهاتف وأنا مبتسمة وراضية عن اختيارتي لمن لهم الحق في إيقاظي داخل غرفتي وسماع تون صوتي الرقيق الذي لم يعرفه الكثيرون عني.. بعد ثوان جائني هاتفٌ لعين،حدسٌ ينبهني أن مكالمة "إيمان" ليست بالصدفة وأنها تعلم أنني شخص ناضج مسؤول وأكيد بخير ما دمت على تواصل معاها منذ يومين، تخيلت أن أحد من أهلى حدث له مكروه يا الله أمي!! لا أبى!! يا الله الله أختى الصغيرة لا لا لا ، أخى أخي نعم أنا تحدث معه وبكيت كثيرا ليلة أمس وهو كان جميل حنون كعادته. 
ربطت وجعة قلبي ليلأ- فتذكرت كل تفاصيله نهضت من السرير قفزًا متجهة إلى مكتبي فتحت هاتفي، لعنه الله على التكنولوجيا! لقد وجدت أكثر من 100 مكالمة ورسالة فائتة ، والكثير منها على هاتفي تظهر بإشعارات متتالية. عيني وقعت على أحدهم يكرر جملة لها نفس المعنى لكن بصياغة مختلفة، ومراسلين مختلفين، " البقاء لله يا إسراء" عمتني الجملة؛ لم أستطع التحكم في يدي لم أستطيع فتح هاتفي، نسيت كلمة المرور، شعرت أني انعزلت عن العالم وحبست في غرفتي المرفهة، وحُرمت التواصل مع أهلى للأبد ومعرفة أحوالهم، شعرت أني عارية، أطراف قدماي تجمدت، دارت رأسي جلست على الأرض ومعي هاتفي. صرخت صرخة عالية لعل أحد يسمعني من الفندق ليساعدني . أكثريا الله أين أنت الآن" صرختُ بها، رددتها كثيرًا ثم عدت إلى مكاني ساندة ظهري لسرير،أدخلت كلمة مروري المكونة من يوم مولدي وحروف اسمه، فتحت الرسائل، فتحت الصفحة الرئيسية، وجدتها غرقى بنعيه! وجدتهم ينعون من أدخلت اسمه من ثوانٍ  على هاتفي المحمول، كانوا كُثرًا، أحدهم يصرخ ويخاطب البراء في منشورًا قائلًا
"متهزرش موت ايه أصحى يالا ونبي" لا أخفى عليكم جزء من روحي وجسمي اطمئن أن المصيبة والكارثة الجديدة في حياتي بعيدة كل البعد عن "الروح" عائلتي الصغيرة . بعد أن اطمئننتُ، وجدت أمي تهاتفني، لم أصدق أنها هنا، أجبتها بصوت مكتوم في بداياته ثائرًا في نهايته " يا ماما براء مات يا ماما البراء خلاص مات ، كدة القصة خلصت للأبد مفيش حكايات تاني خلاص، مفيش قلق تاني من ناحينك علي، ردت قائلة ً، بصوت باكٍ- لم أتوقعه منها -" إسراء إهدي وامسكي أعصابك مش لازم حد يحس بحاجة، مش لازم حد يحس بحزنك، إجمدي. أنا جنبك وهتعدي إهدي وحضري شنطتك وسافري غيري يومين ، أغلقت الهاتف مع أمي وأنا منهارة. لم أتوقف عن البكاء والصريخ وارجعي تاني لمستقبلك 
 وتحدثت إلى "إيمان" التي أيقظتني تتطمئن علي صباحًا، لم أكمل دقيقة وكانت قائلة لي " دقائق وسوف أكون عندك، حضري شنطتك هتقعدي معنا اليومين اللي جايين" جائت أيمان، أرتميت في حضنها.. 

الآن وأنا أكتب لا أبكي البراء فقط. لكن أبكي خسارتي لكل من أحبوني وأحببتهم وهم قلائل جدا.   
وأحن لنفسي في أحضانهم، الآن أحن إلى اللحظة التي حضنتني فيها "إيمان" وبكيت كثيرا وندهت على ماما كثيرا ورددت إسم أسحار كثيرا ثم علق لساني على جملة "مات براء يا إيمان خلاص مش هشوفه تاني" على الرغم من سبب الحضن القاسي  وحسرتي على فقد أقرب صديق لي خلال الـ 25 عامًا الماضية حينها، ولكني اليوم في ذكراه الثالثة أنعيني معه، أنعي فقدي جلسة إيمان، وأنعي حنيني إلى دفيء العائلة، وفقدي لصحبة خيري صديقي المجنون، وفقدي لجزء من روحي في الدوحة لن يعود ، وفي الطريق لاستبداله بشئ من برود الأجانب. فأنا كائنٌ مرنٌ جدًا، أنا إنسان بدائيٌ تمامًا قادرة على التأقلم ، سحلية عصرية، أتلون بلون البيئة التي أعيش فيها محافظة على جلدي هويتي أو أظني قادرة على الحفاظ عليها، أغرقُ نفسي يوميًا في البحث والدراسة والأنشطة ومهاتفة من يشبهونني، وأستطيع التحدث   دون معهم دون شرح وتبرير، أو السير على قشور البيض المتكسر،أتكلم وهم يسمعون و يتقبلونني كما أنا  
 بدأت مدونتي البسيطة بكلماته ، وأنهيها بكلماه أيضًا " وأريد أن أفهم الحب، لأنه معقد جداً جداً، أفهمه أولاً، ثم أجده لاحقاً، فلم أعد متأكداً من أني صادفته سابقاً، من فرط تعقيده وغموضه وتركيبه، لو أن الحب بسيط" لو ..







تعليقات

  1. اقول الاول الاول اني مبسوطة بخطوة التدوين دي وارجع اقرأ

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة