ضحكات القدر المتقطعة..


المكان: 
بيرمنجهام-بريطانيا
 الساعة: ٣ فجرًا

 كانت  ضحكتي  المكتومة  تجوب  الغرفة  وعيناي  تنهمر  بالدموع ، ضحك متواصلٌ حتى كاد نفسي أن ينقطع. طلبت منه أن يكف عن التعليق على فيديو أرسلته له يظهر قسيسًا يعمد طفلًا صغيرًا بطريقة همجية، رد مكررًا نفس تعليقه الساخر:
 "ده لو بيغسل غياراته الداخلية مكنش شاطفها كدة!" 

شعرتُ بأن من يقطنون معي سيقوموني بطردي فورًا، ضايقني إدراكي بأنني مسلوبة حق الضحك بصوت عالي، فهذا الحق لم يعد متاحًا لي  ولا مناسبًا للمرحلة التي أعيشها الآن كطالبة  دولية  مهاجرة  تعيش في بريطانيا. تمسكت بالضحك أكثر وتشبثت بإحساس السعادة الذي يملك قلبي وأكملت ضحكتي المكتومة والمخبئة، دفنت وجهي في الوسادة وأنهيت المكالمة.

 ولأن الأعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوى، أنويت النوم. حاولته ولكنه لا يوفق أماني أبدًا، تقلبت في سريري قليلًا  أمسكت بهاتفي وبحركة لا إرادية
  أخذت التصفح في حسابي الإلكتروني،  وجدتُ إشعارًا لمنشور خاص بـ "إسلام أخي" الذي قلما ينشر منشورات ولأنه في قائمة “المتابعة العاجلة”  صدمني ماكتب  "إن لله وإن إليه راجعون"  ملحوقة بـ توفى "والدي"
عفيفي، تجمدت على سريري لم أستطع النهوض لم أشعر بقدماي  رأيتني في المطار متوجهة لمصر كي أخذ العزاء في من؟ يا الله "والدي" لا أستطيع تمالك دموعي ولكني تجاهلتها، تذكرت يوم تلقيتُ خبر وفاة "البراء" بكل تفاصيله بشكل ملخص ومربك. فلاش باك- وجدتني أستطيع 
النهوض ثم أنطلق لساني يردد يا رب يا رب، رددتها كثيرا ودعوت الله
 أن يجعل أخي مخطئًا، أنا في غاية الضغفِ، لست أهلًا لهذا الاختبار
 الآن. قرأت المنشور مرة أخرى ظهرت كلمة "عم"  قبل "والدي"
والله رأيتها كما لو أن الله جعلها بلون مختلف عن باقي المنشور
 صرخت باكية! ثم تذكرت أنني مسلوبة أيضا حق الصراخة العالية و الضحكة العالية كما أخبرتكم. حمدت الله كثيرا لم أتذكر متى توقفت عن قول الحمد لله من كثرة تردديها، قررت أن أحادث آبي هاتفيا وأخبره أن لا يفعلها ابدًا،وأن يصبح معمرًا فجد والدتي ليس أفضل منه في شيء" 
عاش قرابة 85 عامًا، فلتعش أنت كذلك. طالما حاولت الاتصال به والبكاء 
معه ونهره وعتابه عن أفعالٍ كثيرة لم يفعلها لي كنت أحتاجها معي فيها، 
وأفعال كثيرة أتقن زرعها في- كنت أظنها قسوة منه- ولكني أيقنت حكمته؛ يمهدني لحياة  قاسية أواجها في المستقبل، كان يراني دائمًا بعيدةً عن 
الأجواء الأسرية عزوفة عن النمطية، ولازال متأكدًا من كوني مختلفة مثله،  أردت تحقيق كل ما يجول بخاطري دون الرجوع لأحد. أيقنت في هذة اللحظة أنني لا أتحدث عن والدي كثيرا كما باقي أفراد عائلتي.
 لأني نسخة منه أكره صفاتي فيه، وأكره ضعفي تجاه سيرته أو تجاه 
سيرة كلمة "أب" ، حملتني ذاكرتي لعمر السابعة وللحظتي التي كان
يحملني خلالها على  كتفيه بالساعات، كنا في انتظار الطبيب، وترقب 
حصولنا على نتائج مزرعة الكبد وتحليل البول أعوام. تذكرته وهو يفتح 
ذراعيه ببدلته الأنيقة وشكله المنمق يجري نحوي كالمجنون ويأخذني في
حضنه هاربة إليه من كلبة شارع كانت تحرس أطفالها هبت في وجهي 
عندما وقفت أمامها وهتفت بصوت طفولي مزعج "هو هو هو " ظانة -
 كطفلة بلهاء إنني بمثل هذا الصوت سأتحول لكلب ، فأخيفها وأستطيع
 المرور إلى البيت..تذكرت ذلك كله ولم أهاتفه؛ أعلم الآن أنه يبكي عمه 
محمدي الذي يقوم مقامه والده.
 عمي محمدي هو أخر جد لي  بوفاته أصبحت بلا جداد ولا جدات،
 أصبحت بلا جذور تقريبًا، حمدًا لله، كنت من دقائق يتيمة الأب ولكن الله فاجئني كالعادة واستجاب دعوتي.. 

" فأخي أدبني بطريقته"  ترجمة مهذبة لتعبير مصري شهير" عبر به 
صديقي الفنان معبرًا عن بشاعة صياغة أخي للأخبار المحزنة والعاجلة...فصياغة أخي وتوتري وشعوري بالخوف طيلة الوقت هنا جعلني لم أرى 
كلمة "عم".

عائلة والدي التي لم أحبها أبدًا ، ولا أتذكر أي أحداث حولها سوى دفاعي عن أمي بصوت عالٍ أحميها من تعليقاتهم المسمومة، ووصفها بكلمات 
وأفعال وأحكام غير صحيحة أبدًا.. لي عم اسمه "بهجت" هيئته تشبه
 أبا إسحاق صاحب فيديو" إحذاااااري يا أختاه"، حسنًا ..تعلمون الباقي ومدى حبي الشديد للإسلاميين من هذه النوعية، لكن لي عم أخر يحمل
 الجنسية البريطانية أحبه كثيرا كثيرا له دور كبير عظيم في خطواتي الحياتية الآنية، ابنه الآصغر ولد على يدي قبل سفري من مصر بشهور 
جدي محمدي هو عم لوالدي كبير في السن لم أراه في حياتي غير مرات، أحببته لحبه لأولاده وأحببت سيرته العطرة وأحببته لحبه لوالدي صاحب 
الطبع الصعب الحاد.  أدركت  أنه مختلف تمامًا فمن يحب أبي إذن هو 
بطل وإنسان ذكي. كنت أحبه جدًا وأدعو له. علاقتي بأجدادي من ناحية
 أمي عظيمة سأكتب عنها لاحقا.. كان جدي "سيد" والد أمي يحصل على النصيب الأكبر من الحب وسط كل جدودي، أدركت أنه توفى مرة أخرى 
ومعه عمي محمدي الآن، وتأكدت أن الفقد قريب، قريب جدا شعرت
 بالمسؤولية زيادة عن شعوري أضعافًا، الفقد يقلص أذرعنا التي تحتضن
 التفاهة،  يومًا بعد أخر تأكل أوروبا بقايا شخصيتي البسيطة وتكسبها 
برودة وجدية، انهالت إشعارات الفيس بوك تنعي جدي وأنا أكتب عنه
الآن.. 
خفت أن أذوق هذه الصدمة  مرة أخرى في أحد غير جدي،  نعم.. نعم
من الوارد جدا أراها، ولكن حتى إشعارًا آخر مخيف سأظل أدعو الله أن
 يصنعني على عينه ويلهمني الصبر والهمة والقوة، فهذا موقف معدٌ جيدًا تدريب مسبق لفقد جديد، أنهى القدر علاقتي مع أجدادي، كأنه ينبهني أن الطفولة قد ولت تمامًا. بلغت من العمر ال ٢٨ عاما وأن الوقت لم يتوقف 
وأن عدد الطائرات التي ركبتها وعدد ساعات الرحلات كانت تأخذ من
 أعمار أهلي وليس مني فقط، أدركت قيمة الوقت، جعلني أتأكد لماذا أنا
 أجرى معظم الوقت أكل سريعًا أنام قليل اًأقرأ كثيرا أعمل كثيرا جعلني 
أدركت لماذا أصبحت من المحررين الصغار في غرفة أخبار عظيمة مثل
شبكة الجزيرة في عامي ال 24 وجعلني أفهم سبب أنهاء خدمتي فيها 
وهجرتي لبلد أوروبي مثل بريطانيا في عامي الـ 28، فسر لي لماذا أبكي قليلا، أخاف كثيرا، وجدت سبب واضح لكل التيه الذي أنا فيه خلال كل
 أيام غربتي سأتمسك بتفاهتي حتى الموت، وإذا قابلته سأموت
 بضحكاتي الرنانة في قصص الإنستجرام ساخرة منه لأني تمرنت كثيرً 
عليه، وأيقنت آنه قريب منذ الفقد الأول .. 
لا لا، لحظة. لم أصبح مستعدة يا الله لأي اختبار مثل هذا مرة أخرى فيا
 الله لا تكلفني ما لا أوسعه ولا تؤاخذني إن نسيتك أو أخطأت أو اغتررت بقوتي أو استنجدت بنفسي طرفة عين، ولا تحملني ما لا طاقة لي بي 
واعف عني وعني أهلى واغفر لي وارحمني أنت مولاي فانصرني على القوم الظالمين..


تعليقات

المشاركات الشائعة